يبدي مسؤولون أردنيون ارتياحاً يقترب من الشماتة من نجاة الأردن من «الربيع العربي». جرأة بعض المسؤولين بالمجاهرة بنشوة «المنتصر» علانية مردّه أن الرأي العام خائف من تداعيات صعود «داعش» ومن القتل والتهجير في الجوار السوري والعراقي، وهو متمسك بخيار «الأمن والأمان» حتى على حساب حرياته وحقوقه المتناقصة.
مصدر التبجح الرســــمي لا ينبع من نجاح النظام بكسب التأييد الشعبي من خلال محاولة التعامل مع جذور المظالم الاجتماعية والاقتصادية، التي اســـتدعت الحراك الأردني المعارض، لكن من إثبات النظام مرة أخرى قدرته على تجديد دوره الوظــيفي من دون أي تغيير مفصلي في النهج والسياسات الداخلية.
الكلام نفسه ينطبق على جميع الأنظمة العربية، بما في ذلك دول الثورات. إذ أيقنت النخب أن الدور الوظيفي يضمن الدعم الغربي وبذلك يتم ضرب المطالب الاقتصادية الاجتماعية، في ظل غياب رؤية قيادية استراتيجية للانتفاضات الشعبية - وفي حالة الأردن كان من الضرورة تجديد الدور الوظيفي ضمن المتغيرات المتسارعة.
استطاع النظام التموضع وإعادة التموضع خلال الأعوام الخمسة الماضية، بحيث لا يحاول الغرب وبالأخص واشنطن، إيجاد أو تفضيل بديل له والتضحية به، في حال تحول الحراك الى ثورة شعبية تهدد المصالح الغربية، لخصوصية الموقع الجغرافي والتركيبة الديموغرافية، وحتى لا يتعكّر مزاج إسرائيل ويلهيها عن جرائمها اليومية.
فلم يتردد النظام من متطلبات الدور الوظيفي المتجدد الذي تَطلَّبَ الانخراط في أدوار أمنية عسكرية، جعل من الأردن مركز غرفة العمليات الرئيسية الغربية في سوريا «موك»، والدخول العملي في «التحالف الغربي ضد الإرهاب»، الذي جعل من الأردن عملياً قاعدة للتواجد العسكري الأميركي والبريطاني، إضافة الى تسريع وتيرة التطبيع مع اسرائيل.
كل ذلك تم من دون انتفاضة غضب شعبية. حتى أننا نشهد غض نظر كثير من أصوات المعارضة التقليدية والمتجددة. فالنظام نجح في قمع وتهميش الحراك، من خلال تعديل القوانين لتكميم الأفواه واستخدام محكمة أمن الدولة، غير المعترف بأحكامها دولياً، لتقويض شرعية العمل المعارض في ظل مخاوف شعبية من التطرف وعدم الاستقرار.
حسابات النظام بتأمين الدور الوظيـــفي وبالتالي الدعم الغربي يضمن استمراره من دون إصلاحات، نجحت الى حد كبــــير، وإن كان نجاحاً آنياً. لكن ذلك لم يكن بفضل تقـــديم كل قدراته للترتيبات والتحالفات الأمنية والعســـكرية وتوظيف أدوات القـــمع، بل أيضاً بفضل الذعـــر المجتمعي من شبح «حكم الإسلاميين» وتمدّد «داعش» الجغرافي وإرهابها المتوحش.
الخوف من الإسلاميين ومن «الإخوان» خصوصاً، أثر على موقف النخب السياسية وأوساط المعارضة من الانتفاضات العربية ومن الحراك الأردني. ففيما توجّس النظام الرسمي من تنظيم «الاخوان المسلمين» كبديل له على رأس الحكم، امتد الذعر الى النخب وجعل المعارضة حبيسة اختيار مهادنة غير علنية مع النظام، وبالتالي عدم التصعيد ـ فكسب النظام وتعمّق في انخراطه بالدور الوظيفي.
وقد بلغ الخوف الرسمي أوجه بعد تخلي أميركا عن الرئيس حسني مبارك، والأهم قبول حكم «الإخوان» لمصر، حتى لو عن طريق الانتخابات. في تلك الفترة، لم تعد الأجهزة الأردنية ترى في الحراك إلا وسيلة لـ «الإخوان» للوصول الى الحكم، أو المشاركة به عبر تفاهم أميركي ـ «إخواني»، في ظل صعود نجم الإسلاميين في المنطقة.
هدفت التعبئة والتحشيد إعلامياً وأمنياً ضد «الإخوان» في الأردن، في عامي 2012و2013، إلى ضرب البديل «الأقوى»، وفي الوقت نفسه الى التخويف والترهيب من الحراك الشعبي وبالتالي تقويض المطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية تمس امتيازات بعض النخب التي استفادت من برنامج التحول الاقتصادي، أي من عملية «لبرلة» الاقتصاد الأردني ونفوذها.
هنا تجدر الإشارة إلى أن مقاومة النظام للمطالب الشعبية، ولو في سياق «إصلاح النظام»، مرتبطة بضمان استمرار دوره الوظيفي، ولا يعكس فقط المصالح الطبقية للفئات المتنفذة. إذ إن الحفاظ على نهج اللبرلة الاقتصادية بما نتج عنه من خصخصة لمصادر طبيعية استراتيجية كالفوسفات والبوتاس وتكملته، هي شروط مرتبطة بتثبيت الدعم الغربي، وبالتالي هذا الدور الوظيفي.
فالغرب لا يقبل دعم أي نظام، مهما كان مفيداً، ما لم يلتزم بما يسمى «تحرير الاقتصاد»، بما يفرضه ذلك من رفع دعم سلع أساسية، وبالتالي فهو يترك للحكومات التــــعامل مع تداعيات رفع الأسعار وتدهور مستوى المعيشة لشرائح واسعة من الطبقات الدنيا.
النتيجة كانت خفوت الحراك، لكن استمرار سياسات التفقير من دون أي تردّد، بلغت حد إعلان رئيس الحكومة عبدالله نسور بكل أريحية أن العام 2016 هو عام غلاء غير مسبوق، وكأنه يعتقد أن نجاح النظام بشق منظمة «الإخوان» وعملياً تفكيكها، ورضى واشنطن وصــــندوق النقد الدولي، هي علامات نصر، وإن كان انتصاراً على شعــــب محارب بلقمة العيش وعبر ابتزاز حاجته الى الأمن والأمان.
لكن رهان النظام على الدور الوظيفي كصمام أمان وكبديل عن إقامة دولة المواطنة والمساءلة، يرتكز أيضاً إلى تواطؤ النخب، ومنها بعض الفئات المعارضة، التي اعتمدت ولا تزال تعتمد في مواقفها على تقديرها للموقف الأميركي من النظام.
فما كشفته تـــطورات ما بعد الحراك، أن بعض النخب ركبت موجة الحراك الشعبي، كما حصل تماماً في مصر وتونس، لأنها اعتقــــدت أن واشنـــطن على وشك التــخلي عن النظــام، وليـــس انطلاقاً من التزام بتغيير ثوري أو إيماناً بضرورة إصلاح هذا النظام.
هذه النخب من داخل وخارج النــــظام تتحرك ضمن هذا التصور الانتهازي، ويبدو أن النظام يفهمها جيداً. لكن المشكلة أنه لا يرى غير هؤلاء، لأن هــــؤلاء هم المستعدون للتقـــدم على أساس أنهم البديل للنظام للقيام بالدور الوظيفي، ولتقديم خدمات أكبــــر في هذا الإطار. أما بقية الشعب فغير ذي قيمة أو وجود.
لا بد من الاعتراف هنا أن إجهاض الثورات والتدخل الأجنبي ودخول المجموعات المتطرفة على الخط، والكارثة السورية، أمور خلقت قناعة لدى كثيرين في الأردن أن الحفاظ على النظام هو رديف الحفاظ على الدولة من الانهيار. ولذا خفت صوت المعارضة، بل انتقل بعضها إلى مواقع مؤيدة للنظام تحت شعار حماية الدولة.
إن كــــان هذا دليلاً على ضعف المعارضة ونخبها، فهو أيضاً دليل على وجود عمـــلية تكسير للوعي الوطني الأردني لجهة خطر الهيمنة والتبعية، توازياً مع إضــــعاف الوعي بالحقوق. فلا يمكن الاستـــمرار بالاعتماد على الدور الوظيــــفي من دون استلاب الإرادة.
الإشكالية في السكوت على تبعات الدور الوظيفي بحجة حماية الدولة تتمثل في كونه يُعفي النظام والحكومة من مسؤولية تبعات سياستها على المجتمع الأردني. وبذلك تختفي المساءلة الحقيقية إلا بما لا يعترض عملياً تنفيذ السياسات الداخلية والخارجية، فيما تتفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية ويتزايد إحساس المواطن بالتهميش.
فما معنى حماية الدولة من الانهيار إذا كانت الدولة نفسها تعمل على إضعاف نفسها ودورها، فتضرب بعرض الحائط الأوضاع المعيشية المتدهورة وتمضي في رفع الأسعار، وتصبح الحكومة لا أكثر من منفذ لسياســــات داخلية واقتصادية تضمن الدعم الغربي وتدفع الى اليأس الشـــــعبي، وكله تحت شعار محاربة التطرف، فيما كل المعطيات تؤسس للتطرف؟
[عن جريدة "العرب" اللندنية ويعاد نشره بالاتفاق مع الكاتبة]